وقفات مِن حياة مَن قال:
((أدَّبني ربي فأحسن تأديبي))
صلَّى الله عليه وسلَّم
وما زال عهد وأيَّام الرَّعيل الأوَّل يضع علامات ورؤوس أقلام على صفحات أيَّام المسلمين في أوج تَخلِّيهم عن عمود الدين وأصله وأساسه، من أخلاق ونقاءٍ وحسن معاملة، مع أنَّ أصْل دينِنا هو الأخلاق التي أصبحت الآن عملة نادرة نتندَّر بها للبُكاء على ماضٍ من التُّراث الغابر، الَّذي أصبح يُسمَّى بالوهم والخيال،
ولأنَّ دينَنا سماوي ونزل به أفضل الملائكة على أفضل البشَر ممَّن خطوا على وجه هذه الأرض، وهو النبي محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما كان يُراد لهذه الأمَّة إلاَّ أن تكون فاضلةً، تضْرب المثل الأعلى على أنَّها تحمل عقيدة سليمة صحيحة، وتنتهِج نهجًا يقود مَن ينتهجه إلى الجنَّة.
ولعلَّ أحد أسباب التحوُّل العجيب والغريب الذي قاده صانع النجوم الأوحد على وجه الأرض - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أن يحوِّل رعاة الغنم والأجلاف الأشداء إلى سادة وقادة يقودون العالم، وهم حفاة لا يبحثون ولا يَنظرون إلا إلى طريقٍ واحد: رضا الله ورسوله، هو الطَّريق إلى الجنَّة؛ لذلك تجد العجائب التي تصطدم بها في مواقف هؤلاء النجوم والأبطال، وقد نبع هذا التحوُّل من داخلهم ليضربوا المثَل والقدوة لِمَن خلفهم، كيف تكون الحياة هادئة مُريحة بعد أن تعلَّموا كيف تكون الأخلاق، وقد تلقَّوها ممَّن قال: ((أدبني ربي فأحسنَ تأديبي)).
وممَّا يَزيدك عجبًا واندِهاشًا أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - رغْم أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - زكَّاه وأثنى عليه بقوله - سبحانه -:
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وهو الذي أخبر عن سبب رسالته ودعوته إلى أهل الأرض بقوله: ((إنَّما بُعِثت لأتمِّم مكارم الأخلاق))؛
أي: إنَّ أهمَّ أسباب رسالة الإسلام هي الأخلاق، وهو الذي قال: ((ألا وأنا حبيبُ الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمْد يوم القيامة ولا فخْر، وأنا أوَّل شافع وأوَّل مشفّع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوَّل مَن يحرك حلقَ الجنَّة، فيفتح الله لي فيُدخلُنيها ومعي فُقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأوَّلين والآخرين ولا فخر))،
وهو الذي قال: ((مثَلي ومثل الأنبياء قبْلي كمثل رجل بنَى بنيانًا فأحسنَه وأجمله إلاَّ موضع لبِنة في زاوية من زواياه، فجعل النَّاس يطوفون به ويتعجَّبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة))؛ أي: ليكتمل جمال البنْيان وجلاله، يقول المصطفى: ((فأنا اللبنة وأنا خاتم النَّبيِّين))، وهو الذي لمَّا سُئِلت السيدة عائشة - رضِيَ الله عنْها - عن خلقه قالت: "كان خلقه القرآن"، كان قرآنًا يَمشي على الأرض؛ لذلك قاد مَن حوله بمجرَّد نظرهم إليْه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إلى أن قادوا العالم بأخْلاقهم وأدبِهم ومعاملتهم.
فهو- صلَّى الله عليْه وسلَّم - رجلٌ إنساني من طراز فريد، كأنَّه ما خُلِق في الأرض إلاَّ ليمسح دموع البائسين، وليضمِّد جراح المجروحين، وليذهب آلام البائسين المتألمين، وهو رجُل عبادة قام بين يدَي الله حتَّى تورَّمت قدماه، فلمَّا قيل له: أولم يغفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال قولتَه الجميلة: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا))، ومع ذلك
- كان من صحيح دعائه - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((اللَّهُمَّ اهدني لأحسنِ الأخلاق، لا يهْدي لأحسنِها إلاَّ أنت، واصْرِف عنِّي سيِّئَها، لا يصرِف عنِّي سيِّئَها إلاَّ أنت)).
يا الله! ما رأى أنَّه الأفضل أو الأطْهر أو أنَّه حبيب الله، بل والأعجب أنَّه يذكر نفسَه الشَّريفة الطَّاهرة دائما كلَّما نظر في المرآة بقوله الشَّريف: ((اللَّهُمَّ كما حسَّنت خَلْقي فحسِّن خُلُقي)).
فكَم ممن يرون الآن أنهم الأفضل والأحسن، والأورع والأعلم، والأعلى والأذكى، وهو فيه ما فيه!
لذلك؛فإنَّ دعوته إذا لاقتْ قلوبًا نقيَّة صادقة تعلم أنَّها أمام قدْوة اختارها الله - عزَّ وجلَّ - ليقود العالم إلى الحياة الأفضل والآخِرة الأنعم.
ولعلَّ من فضل الله عليْنا أن منَّ الله عليْنا بنبيِّنا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أنَّ شخصه وقدوته وأخلاقه وتفاصيل حياته مادَّة خصبة، بل وكتاب مفتوح لا تملُّ من أن تنهَل منْه أو تتحدَّث عنه، فهو خير خلْق الله - عزَّ وجلَّ.
• عن أُسامة بن شريك قال: كنَّا جلوسًا عند النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كأنَّما على رؤُوسنا الطَّير، ما يتكلَّم منَّا متكلِّم، إذ جاءَه أناس فقالوا: مَن أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: ((أحسنُكم خلقًا)).
ولكَم هو جميل التلقائيَّة في السؤال ووحي النبوَّة في الإجابة، وكأنَّ الأدب يقود إلى حسن الخلق والعكس، ويالروعة "كأنَّ على رؤوسنا الطَّير"! فإنَّها قمَّة الأدب في أثناءِ جلوسهم أمام قدوتِهم، وآه من أدب مفقود في حياة المسلمين!
واسمع إليه وهو يؤسِّس في قلوب النُّجوم الَّذين صنعهم، كيف ينالون درجات العِبادة بكلِّ أنواعِها في سلوك واحد هو: "حسن الخلق".
1- أجر صيام النَّهار وقيام الليل:
ثمَّ يزيدهم محبَّة في أن ينالوا درجة العبادة التامَّة بدلاً من الصَّلاة طيلة اللَّيل والصيام طوال اليوْم، فيُخبرُهم: ((إنَّ الرَّجُل ليدركُ بحُسْنِ خُلُقِه درجاتِ قائم اللَّيل صائم النَّهار)).
2-ثقل الميزان:
ثمَّ يخبرهم بالذي يثقل الميزان فيقول - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ما من شيء في الميزان أثقَل من حسن الخلق)).
3- التقرُّب والفوز بمحبته:
((ألا أُخبركم بأحبِّكم إليَّ وأقربِكم منِّي مجالسَ يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقًا، الموطَّؤون أكنافًا، الَّذين يألفون ويُؤْلفون، ولا خير فيمَن لا يألَف ولا يؤلف، ألا أخبركم بأبغضِكم إليَّ وأبعدكم منِّي مجالسَ يوم القيامة؟ الثَّرثارون المتشدِّقون المتفيْهِقون)) قالوا: يا رسول الله، قد علِمنا "الثَّرثارون والمتشدِّقون"، فما المتفيْهِقون؟ قال: ((المتكبِّرون)).
وحُسْنُ الخلقِ أنْ يَكونَ سَهْلَ العَريكةِ، لَيِّنَ الجَانِبِ، طَلِيقَ الوَجْهِ، قَليلَ النُّفُورِ، طَيِّبَ الكَلِمَة، "المُوَطَّؤُون أكْنافًا" هذا مَثَل، وحقيقَتُه من التَّوْطِئة وهي التَّمهيد والتَّذليل، وفِراشٌ وَطِيءٌ: لا يُؤذي جَنْبَ النَّائم، والأكْنافُ: الجَوانِب، أرادَ الَّذين جوانِبُهم وَطِيئةٌ يتمكَّن فيها مَن يُصاحِبُهم ولا يَتأذَّى.
4- الفوز بمحبَّة الله:
((إنَّ لله - تعالى - آنيةً من أهل الأرض، وآنيةُ ربِّكم قلوبُ عباده الصَّالحين، وأحبُّها ألينها وأرقُّها)).
5- البُعْد عن النَّار:
((حرَّم على النَّار كلَّ هين لين سهل قريب من النَّاس)).
6- ثمَّ أعالي الجنان، فيقول:
((أنا زعيمٌ ببيْتٍ في ربَض الجنَّة لِمَن ترك المراء وإن كان محقًّا، وبيتٍ في وسطِ الجنَّة لمن ترك الكذِبَ وإن كان مازحًا، وبيتٍ في أعْلى الجنَّة لِمَن حسن خلقه)).
زعيم؛ أي: ضامن، وربض الجنة؛ أي: حولَها، المراء؛ أي: الجدال.
7- ثمَّ يصِف المؤمِن بصفة عامَّة، فيقول:
((المؤمن هين لين كالجمَل الأنف، إن قيد انقاد، وإن أُنيخ على صخرةٍ استناخ)).
وهُنا وقفة تعجُّب :
إذا كان هذا الكلام قيل لِمن يُحيطون بأشْرف خلق الله وتكتحل أعيُنهم برؤيته صباحَ مساء أو كلّ فترة يسيرة، وفدوه بأرْواحهم وأنفُسهم، وهم الَّذين علَّموا البشريَّة من بعدهم كيف يكون الأدب والأخلاق، فكيف بنا نحن الآن؟! وما الذي يُقال لنا وقد أصبح سوء الأدب وسوء الأخلاق هو السِّمةَ الغالبة على المجتمعات الإسلاميَّة؟! بل - وللأسف الشَّديد - هو سمة مَن يدَّعون أنَّهم أهل الدين والالتِزام، فضْلاً عمَّن لا يشغلون بالَهم أصلاً بأي شيء سوى أهوائِهم، بل وقد يسْخرون ممَّن يتَّسم ببعض أخْلاق النَّبىِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ولكن وقفة أخرى أيضًا مع ما أدَّى إليه أخلاق النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أن يقود نفوسَهم وعقولهم وقلوبَهم إلى أعلى السَّحاب، بل إلى السَّماء، ليصِل خبرُهم إليه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن طريق السَّماء.
دعا النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الجهاد ورغَّبهم فيه، فتشوَّقت نفوسُ الصَّحابة لذلك، وكلّ أخذ يجهِّز نفسه وراحلته ومتاعه لذلك، فبقِي مَن لا يجد شيئًا يُجاهد عليه، ولم يَجد مَن يُعينه، فكادت أنفُسُهم أن تخرج حسرةً على عدم استطاعتِهم وتخلُّفهم مع الخوالف؛ كما وصفهم - جلَّ وعلا - بقوله: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92].
فهذا علبة بن زيد - رضِي الله عنْه - كما ذكر ابنُ حجر في "الإصابة":
قام فصلَّى من الليل وبكى، وقال: "اللهُمَّ إنَّك أمرت بالجهاد ورغَّبت فيه، ثمَّ لَم تجعل عندي ما أتقوَّى به مع رسولِك، ولم تجعل في يدِ رسولِك ما يَحملني عليه، وإنِّي أتصدَّق على كلِّ مسلم بكلِّ مظلمة أصابَني فيها من مالٍ أو جسدٍ أو عرض"، وفي رواية: "اللَّهمَّ إنِّي أتصدَّق بعِرضي على مَن ناله من خَلْقك"، ثمَّ أصبح، فقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أين المتصدِّق هذه الليلة؟)) فلم يقم إليه أحد، ثمَّ قال: ((أين المتصدِّق؟ فليقُم))، فقام إليْه فأخبره، فقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((أبشِرْ فوالذي نفسُ محمَّد بيدِه، لقد كتبتْ في الزَّكاة المتقبَّلة)).
الله أكبر، تصدَّق بجسدِه وعِرضه على كلِّ مسلمٍ نال منه أذًى ومظلمة،
بل إلى مشهدٍ آخَر يبين سلامةَ صدورِهم وصفاءَها، يصِفُه لنا أنس بن مالك - رضِي الله عنْه - فيقول: كنَّا جلوسًا مع رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((يطْلع عليْكم الآن رجُلٌ من أهل الجنَّة))، فطلع رجلٌ من الأنصار تنْطف لِحْيته من وضوئه قد تعلق نعليْه، فلمَّا كان الغد قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - مثلَ ذلك، فطلع ذلك الرَّجُل مثلَ المرَّة الأولى، فلمَّا كان اليوم الثَّالث قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - مثلَ مقالتِه أيضًا، فطلع ذلك الرَّجُل على مثل حالِه الأُولى، فلمَّا قام النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - تبِعه عبدالله بن عمرو بن العاص فقال: إنِّي لاحَيْتُ أبي فأقسمتُ أن لا أدخُل عليْه ثلاثًا، فإن رأيتَ أن تُؤويني إليك حتَّى تمضي فعلت، قال: نعم، قال أنس: وكان عبدالله يحدِّث أنَّه بات معه تلك اللياليَ الثَّلاث فلم يرَه يقومُ من اللَّيل شيئًا، غير أنَّه إذا تعار وتقلَّب على فراشه ذكر الله - عزَّ وجلَّ - وكبَّر حتَّى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أنِّي لم أسمعْه يقول إلاَّ خيرًا، فلمَّا مضَت الليالي الثلاث، وكدتُ أن أحتقِر عمله قلت: يا عبدَ الله، إني لم يكُن بيني وبين أبي غضب ولا هجْر، ولكن سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول لك ثلاثَ مرار: ((يطلع عليكم الآنَ رجُل من أهل الجنَّة)) فطلعت أنت الثَّلاث مرار، فأردت أن آوِي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرَك تعمل كثيرَ عمل، فما الَّذي بلغ بك ما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم؟
فقال: ما هو إلاَّ ما رأيتَ، قال: فلمَّا ولَّيت دعاني فقال: ما هو إلاَّ ما رأيتَ غير أنِّي لا أجِد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشًّا، ولا أحسُد أحدًا على خيرٍ أعْطاه الله إيَّاه، فقال عبدُالله: هذه التي بلغت بكَ، وهي التي لا نطيق.
ولمَّا سئل - فداه أبي وأمي -:
أيُّ الناس أفضل؟ فقال: ((كلُّ مخموم القلب، صدوق اللسان)) قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال - عليه الصَّلاة والسلام -: ((هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)).
بل جعل - سبحانَه وتعالى - من نعيم الجنَّة سلامة صدور أهلِها؛ فقال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]، ومن سلِم صدرُه في الدنيا فقد ذاق بعضًا من عيش أهل الجنَّة ونعيمهم، ومن اسودَّ قلبه فقد تذوَّق بعضًا من عذاب أهل النَّار.
عن أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أتَى المَقْبرةَ فقال: ((السَّلامُ علَيْكُمْ دارَ قَوْمٍ مُؤْمنين، وإنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقون، ودِدْتُ أنَّا قَدْ رَأيْنا إخْوانَنا))
قالُوا: أوَلَسْنا إخْوانَكَ يا رَسُولَ اللَّه؟ قال: ((أنْتُمْ أصْحَابي وإخْوانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ))
فقالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَم يَأْتِ بَعْدُ مِن أُمَّتِك يا رَسولَ اللَّه؟ فقال: ((أرَأَيْتَ لَوْ أنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، ألاَ يَعْرِفُ خَيْلَه؟)) قالوا: بلى يا رَسُولَ اللَّه، قال: ((فإنَّهُم يأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن الوُضوءِ وأنا فَرَطُهُمْ على الحَوْضِ، ألا لَيُذادنَّ رِجالٌ عَن حَوْضي كما يُذادُ البَعيرُ الضَّالُّ، أُنادِيهِمْ: ألا هَلُمَّ، فيُقالُ: إنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَك، فأقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا)).
الغر: جمع الأغرّ، من الغُرَّة وبياض الوجْه.
المحجَّل: الخيل الَّتي في أرجُلِها بياض عند الحافِر، ولا يبلغ الرُّكبتَين.
الأدْهَم: الأسود.
البُهْم: جمع بَهيم، وهو الأسود الخالص.
المحجَّلون: الَّذين يسطع النُّور في أيديهم وأرجُلِهم من أثر الوضوء، كأنَّه تَحجيل فرس.
فَرَطهم: سابقهم لأهيِّئ لهم طيب المنزل والمقام.
يُذاد: يُمْنَع ويُطْرَد.
البَعير: ما صلح للرُّكوب والحمل من الإبل، وذلك إذا استكمل أرْبَعَ سنوات، ويقال للجمل والناقة.
سُحقًا: تعبير عن الغضب، والمعنى: بعْدًا وهلاكًا.
قال فضيل بن عياض: "لأن يصحبني فاجرٌ حسن الخلق، أحبُّ إليَّ من أن يصحَبَني عابدٌ سيِّئ الخلق؛ لأنَّ الفاسق إذا حسن خلقه خفَّ على النَّاس وأحبوه، والعابد إذا ساء خلقه، ثقل على النَّاس ومقتوه".
((أدَّبني ربي فأحسن تأديبي))
صلَّى الله عليه وسلَّم
وما زال عهد وأيَّام الرَّعيل الأوَّل يضع علامات ورؤوس أقلام على صفحات أيَّام المسلمين في أوج تَخلِّيهم عن عمود الدين وأصله وأساسه، من أخلاق ونقاءٍ وحسن معاملة، مع أنَّ أصْل دينِنا هو الأخلاق التي أصبحت الآن عملة نادرة نتندَّر بها للبُكاء على ماضٍ من التُّراث الغابر، الَّذي أصبح يُسمَّى بالوهم والخيال،
ولأنَّ دينَنا سماوي ونزل به أفضل الملائكة على أفضل البشَر ممَّن خطوا على وجه هذه الأرض، وهو النبي محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما كان يُراد لهذه الأمَّة إلاَّ أن تكون فاضلةً، تضْرب المثل الأعلى على أنَّها تحمل عقيدة سليمة صحيحة، وتنتهِج نهجًا يقود مَن ينتهجه إلى الجنَّة.
ولعلَّ أحد أسباب التحوُّل العجيب والغريب الذي قاده صانع النجوم الأوحد على وجه الأرض - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أن يحوِّل رعاة الغنم والأجلاف الأشداء إلى سادة وقادة يقودون العالم، وهم حفاة لا يبحثون ولا يَنظرون إلا إلى طريقٍ واحد: رضا الله ورسوله، هو الطَّريق إلى الجنَّة؛ لذلك تجد العجائب التي تصطدم بها في مواقف هؤلاء النجوم والأبطال، وقد نبع هذا التحوُّل من داخلهم ليضربوا المثَل والقدوة لِمَن خلفهم، كيف تكون الحياة هادئة مُريحة بعد أن تعلَّموا كيف تكون الأخلاق، وقد تلقَّوها ممَّن قال: ((أدبني ربي فأحسنَ تأديبي)).
وممَّا يَزيدك عجبًا واندِهاشًا أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - رغْم أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - زكَّاه وأثنى عليه بقوله - سبحانه -:
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وهو الذي أخبر عن سبب رسالته ودعوته إلى أهل الأرض بقوله: ((إنَّما بُعِثت لأتمِّم مكارم الأخلاق))؛
أي: إنَّ أهمَّ أسباب رسالة الإسلام هي الأخلاق، وهو الذي قال: ((ألا وأنا حبيبُ الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمْد يوم القيامة ولا فخْر، وأنا أوَّل شافع وأوَّل مشفّع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوَّل مَن يحرك حلقَ الجنَّة، فيفتح الله لي فيُدخلُنيها ومعي فُقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأوَّلين والآخرين ولا فخر))،
وهو الذي قال: ((مثَلي ومثل الأنبياء قبْلي كمثل رجل بنَى بنيانًا فأحسنَه وأجمله إلاَّ موضع لبِنة في زاوية من زواياه، فجعل النَّاس يطوفون به ويتعجَّبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة))؛ أي: ليكتمل جمال البنْيان وجلاله، يقول المصطفى: ((فأنا اللبنة وأنا خاتم النَّبيِّين))، وهو الذي لمَّا سُئِلت السيدة عائشة - رضِيَ الله عنْها - عن خلقه قالت: "كان خلقه القرآن"، كان قرآنًا يَمشي على الأرض؛ لذلك قاد مَن حوله بمجرَّد نظرهم إليْه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إلى أن قادوا العالم بأخْلاقهم وأدبِهم ومعاملتهم.
فهو- صلَّى الله عليْه وسلَّم - رجلٌ إنساني من طراز فريد، كأنَّه ما خُلِق في الأرض إلاَّ ليمسح دموع البائسين، وليضمِّد جراح المجروحين، وليذهب آلام البائسين المتألمين، وهو رجُل عبادة قام بين يدَي الله حتَّى تورَّمت قدماه، فلمَّا قيل له: أولم يغفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال قولتَه الجميلة: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا))، ومع ذلك
- كان من صحيح دعائه - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((اللَّهُمَّ اهدني لأحسنِ الأخلاق، لا يهْدي لأحسنِها إلاَّ أنت، واصْرِف عنِّي سيِّئَها، لا يصرِف عنِّي سيِّئَها إلاَّ أنت)).
يا الله! ما رأى أنَّه الأفضل أو الأطْهر أو أنَّه حبيب الله، بل والأعجب أنَّه يذكر نفسَه الشَّريفة الطَّاهرة دائما كلَّما نظر في المرآة بقوله الشَّريف: ((اللَّهُمَّ كما حسَّنت خَلْقي فحسِّن خُلُقي)).
فكَم ممن يرون الآن أنهم الأفضل والأحسن، والأورع والأعلم، والأعلى والأذكى، وهو فيه ما فيه!
لذلك؛فإنَّ دعوته إذا لاقتْ قلوبًا نقيَّة صادقة تعلم أنَّها أمام قدْوة اختارها الله - عزَّ وجلَّ - ليقود العالم إلى الحياة الأفضل والآخِرة الأنعم.
ولعلَّ من فضل الله عليْنا أن منَّ الله عليْنا بنبيِّنا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أنَّ شخصه وقدوته وأخلاقه وتفاصيل حياته مادَّة خصبة، بل وكتاب مفتوح لا تملُّ من أن تنهَل منْه أو تتحدَّث عنه، فهو خير خلْق الله - عزَّ وجلَّ.
• عن أُسامة بن شريك قال: كنَّا جلوسًا عند النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كأنَّما على رؤُوسنا الطَّير، ما يتكلَّم منَّا متكلِّم، إذ جاءَه أناس فقالوا: مَن أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: ((أحسنُكم خلقًا)).
ولكَم هو جميل التلقائيَّة في السؤال ووحي النبوَّة في الإجابة، وكأنَّ الأدب يقود إلى حسن الخلق والعكس، ويالروعة "كأنَّ على رؤوسنا الطَّير"! فإنَّها قمَّة الأدب في أثناءِ جلوسهم أمام قدوتِهم، وآه من أدب مفقود في حياة المسلمين!
واسمع إليه وهو يؤسِّس في قلوب النُّجوم الَّذين صنعهم، كيف ينالون درجات العِبادة بكلِّ أنواعِها في سلوك واحد هو: "حسن الخلق".
1- أجر صيام النَّهار وقيام الليل:
ثمَّ يزيدهم محبَّة في أن ينالوا درجة العبادة التامَّة بدلاً من الصَّلاة طيلة اللَّيل والصيام طوال اليوْم، فيُخبرُهم: ((إنَّ الرَّجُل ليدركُ بحُسْنِ خُلُقِه درجاتِ قائم اللَّيل صائم النَّهار)).
2-ثقل الميزان:
ثمَّ يخبرهم بالذي يثقل الميزان فيقول - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ما من شيء في الميزان أثقَل من حسن الخلق)).
3- التقرُّب والفوز بمحبته:
((ألا أُخبركم بأحبِّكم إليَّ وأقربِكم منِّي مجالسَ يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقًا، الموطَّؤون أكنافًا، الَّذين يألفون ويُؤْلفون، ولا خير فيمَن لا يألَف ولا يؤلف، ألا أخبركم بأبغضِكم إليَّ وأبعدكم منِّي مجالسَ يوم القيامة؟ الثَّرثارون المتشدِّقون المتفيْهِقون)) قالوا: يا رسول الله، قد علِمنا "الثَّرثارون والمتشدِّقون"، فما المتفيْهِقون؟ قال: ((المتكبِّرون)).
وحُسْنُ الخلقِ أنْ يَكونَ سَهْلَ العَريكةِ، لَيِّنَ الجَانِبِ، طَلِيقَ الوَجْهِ، قَليلَ النُّفُورِ، طَيِّبَ الكَلِمَة، "المُوَطَّؤُون أكْنافًا" هذا مَثَل، وحقيقَتُه من التَّوْطِئة وهي التَّمهيد والتَّذليل، وفِراشٌ وَطِيءٌ: لا يُؤذي جَنْبَ النَّائم، والأكْنافُ: الجَوانِب، أرادَ الَّذين جوانِبُهم وَطِيئةٌ يتمكَّن فيها مَن يُصاحِبُهم ولا يَتأذَّى.
4- الفوز بمحبَّة الله:
((إنَّ لله - تعالى - آنيةً من أهل الأرض، وآنيةُ ربِّكم قلوبُ عباده الصَّالحين، وأحبُّها ألينها وأرقُّها)).
5- البُعْد عن النَّار:
((حرَّم على النَّار كلَّ هين لين سهل قريب من النَّاس)).
6- ثمَّ أعالي الجنان، فيقول:
((أنا زعيمٌ ببيْتٍ في ربَض الجنَّة لِمَن ترك المراء وإن كان محقًّا، وبيتٍ في وسطِ الجنَّة لمن ترك الكذِبَ وإن كان مازحًا، وبيتٍ في أعْلى الجنَّة لِمَن حسن خلقه)).
زعيم؛ أي: ضامن، وربض الجنة؛ أي: حولَها، المراء؛ أي: الجدال.
7- ثمَّ يصِف المؤمِن بصفة عامَّة، فيقول:
((المؤمن هين لين كالجمَل الأنف، إن قيد انقاد، وإن أُنيخ على صخرةٍ استناخ)).
وهُنا وقفة تعجُّب :
إذا كان هذا الكلام قيل لِمن يُحيطون بأشْرف خلق الله وتكتحل أعيُنهم برؤيته صباحَ مساء أو كلّ فترة يسيرة، وفدوه بأرْواحهم وأنفُسهم، وهم الَّذين علَّموا البشريَّة من بعدهم كيف يكون الأدب والأخلاق، فكيف بنا نحن الآن؟! وما الذي يُقال لنا وقد أصبح سوء الأدب وسوء الأخلاق هو السِّمةَ الغالبة على المجتمعات الإسلاميَّة؟! بل - وللأسف الشَّديد - هو سمة مَن يدَّعون أنَّهم أهل الدين والالتِزام، فضْلاً عمَّن لا يشغلون بالَهم أصلاً بأي شيء سوى أهوائِهم، بل وقد يسْخرون ممَّن يتَّسم ببعض أخْلاق النَّبىِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ولكن وقفة أخرى أيضًا مع ما أدَّى إليه أخلاق النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أن يقود نفوسَهم وعقولهم وقلوبَهم إلى أعلى السَّحاب، بل إلى السَّماء، ليصِل خبرُهم إليه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن طريق السَّماء.
دعا النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الجهاد ورغَّبهم فيه، فتشوَّقت نفوسُ الصَّحابة لذلك، وكلّ أخذ يجهِّز نفسه وراحلته ومتاعه لذلك، فبقِي مَن لا يجد شيئًا يُجاهد عليه، ولم يَجد مَن يُعينه، فكادت أنفُسُهم أن تخرج حسرةً على عدم استطاعتِهم وتخلُّفهم مع الخوالف؛ كما وصفهم - جلَّ وعلا - بقوله: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92].
فهذا علبة بن زيد - رضِي الله عنْه - كما ذكر ابنُ حجر في "الإصابة":
قام فصلَّى من الليل وبكى، وقال: "اللهُمَّ إنَّك أمرت بالجهاد ورغَّبت فيه، ثمَّ لَم تجعل عندي ما أتقوَّى به مع رسولِك، ولم تجعل في يدِ رسولِك ما يَحملني عليه، وإنِّي أتصدَّق على كلِّ مسلم بكلِّ مظلمة أصابَني فيها من مالٍ أو جسدٍ أو عرض"، وفي رواية: "اللَّهمَّ إنِّي أتصدَّق بعِرضي على مَن ناله من خَلْقك"، ثمَّ أصبح، فقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أين المتصدِّق هذه الليلة؟)) فلم يقم إليه أحد، ثمَّ قال: ((أين المتصدِّق؟ فليقُم))، فقام إليْه فأخبره، فقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((أبشِرْ فوالذي نفسُ محمَّد بيدِه، لقد كتبتْ في الزَّكاة المتقبَّلة)).
الله أكبر، تصدَّق بجسدِه وعِرضه على كلِّ مسلمٍ نال منه أذًى ومظلمة،
بل إلى مشهدٍ آخَر يبين سلامةَ صدورِهم وصفاءَها، يصِفُه لنا أنس بن مالك - رضِي الله عنْه - فيقول: كنَّا جلوسًا مع رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((يطْلع عليْكم الآن رجُلٌ من أهل الجنَّة))، فطلع رجلٌ من الأنصار تنْطف لِحْيته من وضوئه قد تعلق نعليْه، فلمَّا كان الغد قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - مثلَ ذلك، فطلع ذلك الرَّجُل مثلَ المرَّة الأولى، فلمَّا كان اليوم الثَّالث قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - مثلَ مقالتِه أيضًا، فطلع ذلك الرَّجُل على مثل حالِه الأُولى، فلمَّا قام النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - تبِعه عبدالله بن عمرو بن العاص فقال: إنِّي لاحَيْتُ أبي فأقسمتُ أن لا أدخُل عليْه ثلاثًا، فإن رأيتَ أن تُؤويني إليك حتَّى تمضي فعلت، قال: نعم، قال أنس: وكان عبدالله يحدِّث أنَّه بات معه تلك اللياليَ الثَّلاث فلم يرَه يقومُ من اللَّيل شيئًا، غير أنَّه إذا تعار وتقلَّب على فراشه ذكر الله - عزَّ وجلَّ - وكبَّر حتَّى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أنِّي لم أسمعْه يقول إلاَّ خيرًا، فلمَّا مضَت الليالي الثلاث، وكدتُ أن أحتقِر عمله قلت: يا عبدَ الله، إني لم يكُن بيني وبين أبي غضب ولا هجْر، ولكن سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول لك ثلاثَ مرار: ((يطلع عليكم الآنَ رجُل من أهل الجنَّة)) فطلعت أنت الثَّلاث مرار، فأردت أن آوِي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرَك تعمل كثيرَ عمل، فما الَّذي بلغ بك ما قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم؟
فقال: ما هو إلاَّ ما رأيتَ، قال: فلمَّا ولَّيت دعاني فقال: ما هو إلاَّ ما رأيتَ غير أنِّي لا أجِد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشًّا، ولا أحسُد أحدًا على خيرٍ أعْطاه الله إيَّاه، فقال عبدُالله: هذه التي بلغت بكَ، وهي التي لا نطيق.
ولمَّا سئل - فداه أبي وأمي -:
أيُّ الناس أفضل؟ فقال: ((كلُّ مخموم القلب، صدوق اللسان)) قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال - عليه الصَّلاة والسلام -: ((هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)).
بل جعل - سبحانَه وتعالى - من نعيم الجنَّة سلامة صدور أهلِها؛ فقال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]، ومن سلِم صدرُه في الدنيا فقد ذاق بعضًا من عيش أهل الجنَّة ونعيمهم، ومن اسودَّ قلبه فقد تذوَّق بعضًا من عذاب أهل النَّار.
عن أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أتَى المَقْبرةَ فقال: ((السَّلامُ علَيْكُمْ دارَ قَوْمٍ مُؤْمنين، وإنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقون، ودِدْتُ أنَّا قَدْ رَأيْنا إخْوانَنا))
قالُوا: أوَلَسْنا إخْوانَكَ يا رَسُولَ اللَّه؟ قال: ((أنْتُمْ أصْحَابي وإخْوانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ))
فقالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَم يَأْتِ بَعْدُ مِن أُمَّتِك يا رَسولَ اللَّه؟ فقال: ((أرَأَيْتَ لَوْ أنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، ألاَ يَعْرِفُ خَيْلَه؟)) قالوا: بلى يا رَسُولَ اللَّه، قال: ((فإنَّهُم يأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن الوُضوءِ وأنا فَرَطُهُمْ على الحَوْضِ، ألا لَيُذادنَّ رِجالٌ عَن حَوْضي كما يُذادُ البَعيرُ الضَّالُّ، أُنادِيهِمْ: ألا هَلُمَّ، فيُقالُ: إنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَك، فأقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا)).
الغر: جمع الأغرّ، من الغُرَّة وبياض الوجْه.
المحجَّل: الخيل الَّتي في أرجُلِها بياض عند الحافِر، ولا يبلغ الرُّكبتَين.
الأدْهَم: الأسود.
البُهْم: جمع بَهيم، وهو الأسود الخالص.
المحجَّلون: الَّذين يسطع النُّور في أيديهم وأرجُلِهم من أثر الوضوء، كأنَّه تَحجيل فرس.
فَرَطهم: سابقهم لأهيِّئ لهم طيب المنزل والمقام.
يُذاد: يُمْنَع ويُطْرَد.
البَعير: ما صلح للرُّكوب والحمل من الإبل، وذلك إذا استكمل أرْبَعَ سنوات، ويقال للجمل والناقة.
سُحقًا: تعبير عن الغضب، والمعنى: بعْدًا وهلاكًا.
قال فضيل بن عياض: "لأن يصحبني فاجرٌ حسن الخلق، أحبُّ إليَّ من أن يصحَبَني عابدٌ سيِّئ الخلق؛ لأنَّ الفاسق إذا حسن خلقه خفَّ على النَّاس وأحبوه، والعابد إذا ساء خلقه، ثقل على النَّاس ومقتوه".